المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشاعر ومراعاة النظير


الناقد/عبدالله الروقي
17-10-2017, 09:27 PM
إن الجمع بين الكلمات المتناسبة أو المعاني المتقاربة أو بين الكلمات والمعاني المتآلفة أمر أساسي في كل كلام , سواء شعرًا أو نثرًا!
ومن خرج عن هذه القاعدة وأصبح يجمع بين كلمة وأخرى أو فكرة وأخرى أو صدر وعجز , وليس بينهما ترابط أصبح الكلام ضعيفا لايستحق الاهتمام ولايستدعي الانتباه!
ومن هذا المنطلق أصبح كثير من الشعراء ينتقدون أخصامهم , وينعتونهم بعدم القدرة على الملاءمة بين ألفاظهم ومعانيهم , ولذلك وقف نقّاد كثيرون موقف هؤلاء الشعراء وراحوا يُقوِّمون أشعار الشعراء بموازين من جملتها :قدرة الشاعر على مراعاة النظير أو عدم قدرته !
فتعالوا لنتعرف على كيفية (مراعاة النظير) والذي هو جزء صغير جدا من أجزاء البلاغة الواسعة !
البلاغيون جعلوه في ثلاثة أقسام رئيسية:
الأول: في ائتلاف اللفظ والمعنى
الثاني: في ائتلاف اللفظ واللفظ
الثالث: في ائتلاف المعنى والمعنى
(أما ائتلاف اللفظ والمعنى) فهو أن تكون الألفاظ لائقة بالمعنى المقصود ومناسبة له, فإذا كان المعنى فخما كان اللفظ الموضوع له جزلا!
وإذا كان المعنى رقيقا كان اللفظ رقيقا , فيطابقه في كل الأحوال , فإذا تلاءما أحسن ملاءمة , وقعا من البلاغة أحسن موقع !
ومثال على ذلك من القرآن:
حينما يكون التصوير لشيء مهول فإنه لايصلح معه إلا الكلمات شديدة الوقوع على الأذن!
ولذلك عندما تحدث القرآن عن العذاب الذي ينتظر الكفار الذين كذبوا محمد صلى الله عليه وسلم , استخدم القرآن الكلمات الضخمة الجزلة مثيرة الفزع مثل:
(الحاقة , القارعة , الطاغية , صرصرٍ عاتية, الطامة , الغاشية ...) وغيرها من الكلمات المخيفة
لأن الموقف موقف تهديد ووعيد!
قال تعالى:(الحاقة , ماالحاقة , وماأدراك ماالحاقة , كذبت ثمود وعاد بالقارعة ,فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية , وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية)
قال تعالى:(هل أتاك حديث الغاشية , وجوه يومئذ خاشعة , عاملة ناصبة , تصلى نارا حامية , تسقى من عينٍ آنية , ليس لهم طعام إلا من ضريع , لايسمن ولايغني من جوع)
بينما عندما يكون التصوير لنعيم الجنة مثلا , تكون العبارات هادئة تميل إلى العذوبة والرقة , والكلام فيها يجري ناعما كأنه سلسبيل , لاحظ:
قال تعالى:(وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها , وفُتِحَت أبوابها وقال لهم خزنتها سلامٌ عليكم , طبتم , فادخلوها خالدين , وقالوا: الحمد لله الذي صَدَقَنا وعده , وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء , فنِعْمَ أجرُ العاملين, وترى الملائكة حافين من حول العرش , يسبحون بحمد ربهم , وقُضي بينهم بالحق , وقيل: الحمد لله رب العالمين)
هذا مايسمى بائتلاف اللفظ والمعنى !
القسم الثاني:
(ائتلاف اللفظ واللفظ) وهو أن تريد معنى من المعاني تصح تأديته بألفاظ كثيرة أي :ترمز له بلفظ آخر ,ولكن هذا الرمز لابد أن يناسب مابعده ويلائمه.
مثال :
قال البحتري يصف الإبل الهزال:

كالقِسِي المُعَطَّفات بل الاســــــــــ = ـــهُمِ مَبْرِيَّةٍ بلِ الأوتارِ
القسي: جمع قوس (وحصل لها مايسميه الصرفيون بالقلب المكاني وليس هو محور الحديث)
الشاهد شبه الإبل بالقسي , ولاحظ جاء بعدها بكلمة (الأسهم , والأوتار)
قال النقاد : أنه تشبيهه صحيح مع مابعده!وأبدع الشاعر!
لأنه لو قال (كالعراجين, أو الأعواد) لم تتلاءم مع مابعدها في كلمة(الأسهم والأوتار)
فأصبحت كلمة القسي متلائمة مع الأسهم والأوتار , وقد أحسن الشاعر لما فيه من حسن التأليف بين الكلمات , وجودة النظم.
ومثال آخر:
قول ابن رشيق:

أصحُّ وأقوى مارويناه في الندى = من الخبرِ المأثورِ منذُ قديمِ
أحاديثُ ترويها السيولُ عن الحَيَا = عنِ البحرِ عن جُودِ الأميرِ تميمِ
لاحظ أنه لاءم بين الصحة والقوة, وبين الخبر والأحاديث المروية , لأنها كلها متقاربة في ألفاظها.
ثم أردفها بقوله: سيول , ثم الحيا(لأن الحيا بعد السيول), ثم عن البحر لأنه يقرب من السيل, ثم تابع بعدها عن جود الأمير تميم, فهذه الأمور كلها متقاربة , فلأجل هذا لاءم بينها في تأليف الألفاظ بشكل محكم , فصار الكلام محكم النسج !
ولاحظ التركيب الرهيب في قول أحدهم:

وفي أربعٍ منِّي حَلت منكِ أربَعٌ = فما أنا دارٍ أيها هاجَ لي كربي
أوجْهُك في عيني , أم الريقُ في فمِي = أم النطقُ في سمعي, أم الحُبُّ في قلبيأبدع الشاعر هنا!
فقد لاءم بين الوجه والعين , والريق والفم , والنطق مع السمع, والحب مع القلب ,وذلك في غاية مراعاة النظير.
ومن قصص مراعاة النظير بين الصدر والعجز !
يقول الراوي: كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب نختلف إلى (مدرِك) نتعلم منه الشعر.
فقال لنا يوما: إذا وضعتم الكلمة مع لِفْقِها كنتم شعراء!
ثم قال هيا أكملوا هذا الشطر :
نروحُ ونغدو كلَّ يومٍ وليلةٍ = ..............................
فقال أحدهم: فحتَّى متى هذا الرواحُ مع الغُدُوَ
فقال له : لم تصنع شيئا!
فقال آخر: فيالكَ مَغْدًى مرَّة ورَوَاحا
فقال له لم تصنع شيئًا!
فقال آخر: وعَمَّا قليلٍ لانروحُ ولانغْدُو
فقال: الآن تم البيت .
فأصبح البيت :

نروحُ ونغدو كلَّ يومٍ وليلةٍ = وعَمَّا قليلٍ لانروحُ ولانغْدُو
فلاحظوا كيف اتسق الصدر مع العجز, هذا هو مراعاة النظير!
هذا هو القسم الثاني من مراعاة النظير وهو مراعاة اللفظ مع اللفظ!
وأما القسم الثالث :وهو ائتلاف المعنى مع المعنى
وهو أن يكون الكلام مشتمل على أمرين , فيُقرن بكل واحد منهما مايلائمه.
مثال على ذلك:
يقول المتنبي:

تمُرُ بكَ الأبطالُ كُلْمَى هزيمةً = ووجهُكَ وضَّاحٌ , وثغرُكَ باسِمُ
وقفتُ وما في الموت شَكٌّ لواقفٍ = كأنكَ في جفْنِ الردى وَهْو نائِمُ
لاحظ أن عجز كل واحدٍ من البيتين ملائم لكل واحد من صدريهما!
ويقال أن سيف الدولة نقَمَ عليه هذين البيتين وقال: هلَّا جعلت عجز أحدهما عجزًا للآخر.
فقال المتنبي:
قولي:(كأنك في جفن الردى وهو نائم) قلته من أجل التمثيل للسلامة في موضع العَطَب ,
فمقرِرٌ للوقوف والبقاء في موضع, يقطع على صاحبه بالموت, أحسنُ من مقرر للثبات في حال الهزيمة.
وقولي(وجهك وضاحٌ وثغرك باسم)تتمة لقولي(تمر بك الأبطال)أحسن من جعله تتمة لقولي(وقفت ومافي الموت شكٌ لواقفٍ)!
لأن الإنسان في حال الهزيمة يلحقه من ضيق النفس وعبوس الوجه مالايخفى
فاستحسن سيف الدولة ما قاله من ملاحظة المعاني التي هي مغازيه في قصائده , وأكرمه وزاد في عطيته.
وفي مثال من كتاب الله على هذا القسم:
قال تعالى:(إن لك ألا تجوع فيها ولاتعرى, وأنك لاتظمأ فيها ولاتضحى)طه
فإنه لم يراعِ ملاءمة الريِّ للشبع , ولاأراد مناسبة الاستظلال للضحى!
فلم يقرن الجوع مع الظمأ, والاستظلال في الضحى (تضحى:يعني تظهر في حرارة الشمس)؟!
لتكون الآية مثلا (إن لك ألا تجوع فيها ولاتظمأ, وأنك لاتعرى فيها ولاتضحى)
وإنما أراد أبلغ من هذا ومناسبةً أدْخَل من ذلك!
فسبحان الله ماأبلغ القرآن , فلقد قرن الجوع مع العري ولم يقرنه مع الظمأ, لأن الجوع يلحق منه ألم في باطن الإنسان فأصبح البطن فارغا ,والعري يلحق ألم في ظاهر جسد الإنسان وهو ألم الحاجة والفقر , الذي سبَّبْ الجوع والعري!وأصبح الظاهر فارغا من اللباس .
وقرن الظمأ (العطش)والضُّحى(حرارة الشمس), لأن الظمأ يحرق كبد الإنسان ويوقد في فؤاده النار , والضحى يحرق جسده الظاهر بحرارة الشمس! ,وكذلك الحرارة تسبب العطش فقرنهما مع بعض!
فضم كل واحد منهما إلى ماله به تعلق لتحصل المناسبة!
فانظروا كيف تكون صياغة النظير في القرآن بشكل مُبهِر!

وخذوا مثالا وأنموذجا لمراعاة النظير من أعذب القصيد في مناجاة الطائر , نظمها أبو فراس وهو في الأسر:

أقول وقد ناحت بقُربي حمامةٌ = أيا جارتا , لو تشعرين بحالي
مَعَاذ الهَوى , ماذُقْتِ طارِقة النَّوى = ولا خَطَرت مِنكِ الهُمومُ ببالِ
أيا جارتا , ماأنصفَ الدهرُ بيننا = تَعالَي أُقاسِمُكِ الهمومَ تعَالي
تَعاليْ تَرَيْ رُوحًا لَدَيَّ ضعيفةً = تَرَدَّدُّ في جسمٍ يُعذَّبُ بَالِ
أيَضحكُ مأسورٌ وتَبكي طليقةٌ ؟ = ويَسكتُ محزونٌ ويَنْدُبُ سالِ
لقد كنتُ أَولى منكِ بالدمعِ مُقلةً = ولكنَّ دمعي في الحوداثِ غالِ
الله الله الله !
أرأيتم كيف أن الشاعر الأسير لم يأتِ إلا بألفاظ النواح , والنوى, والهموم, والضعف, والعذاب, والأسر, والانطلاق , والحزن, والندب , والدمع, والحوادث... وهي جميعًا متآلفة منسجمة تعبِّر عن الحزن والأسى الذي يعيشه الشاعر واكتوى بآلامه.

فالشاعر يحتاج إلى ثقافة واسعة في اللغة العربية والبلاغة بشكلٍ خاص ليكون بليغا !
هذا الفن أحد فنون البلاغة وأحد أسرار لغتنا العربية , وأدعو الشعراء إلى الاقتراب من هذه اللغة المعجزة للتعرف على أسرارها العليَّة!
وإن شاء الله سنتناول في كل مرة جزءًا من أجزاء البلاغة في مواضيع قادمة في علم البيان المذهل!بإذن الله!
دمتم بود والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

تنويه/يمنع نسخه لأي منتدى

محمد الغنامي
17-10-2017, 09:34 PM
معلومات جميله ناقدنا
تسلم ايدك ويسلم حضورك الراقي
تم التثبيت

ريم الفلا
17-10-2017, 09:50 PM
علم البلاغه علم جميل
طرح قيم .. لاهنت على ذلك

رحيل
17-10-2017, 11:56 PM
مادري هل مسموح بالرد
والا الموضوع للقراءة فقط (:

عبدالله الدّنّيش
18-10-2017, 12:36 AM
شكرا أستاذ عبدالله على هذا الموضوع البليغ
أستمتعنا بهذا الطرح الجميل .. وما زالت جهنم
رغباتنا تقول هل من مزيد ........؟
وشكرا لك ويسعدنا متابعة فيض قلمك البديع

مهرة يام
18-10-2017, 12:02 PM
يعطيك الف عافيه ياناقدنا المبدع
على الموضوع المميز والراقي
علم البلاغه جميل جدا وانا من اشد المحبين لعلم البلاغه لمافيه من صور جميله وبديعه
لاهنت ياالامير

ملكة الرواسي
18-10-2017, 01:04 PM
يسلم لنا قلمك المتميز
يعطيك العافية على ماقدمت من رقي

الناقد/عبدالله الروقي
19-10-2017, 05:31 PM
الزملاء والزميلات الأفاضل الله يسعدكم جميعا
ويوفقنا وإياكم لما ينفعنا في الدنيا والآخرة
شاكرًا مروركم الكريم ،،،،

محمد الـفراج
19-10-2017, 08:21 PM
تسلم يمينك يالناقد
موضوع رائع
يعطيك الف عافيه

سناء
02-12-2017, 08:24 PM
شرح جميل ومفيد
يساعد كثيرا على فهم معاني القرآن الكريم

شكرا جزيلا

الناقد/عبدالله الروقي
29-12-2018, 12:17 AM
تسلم يمينك يالناقد
موضوع رائع
يعطيك الف عافيه

الله يعافيك يابو فيصل
وتشكر على مرورك العذب

الناقد/عبدالله الروقي
29-12-2018, 12:19 AM
شرح جميل ومفيد
يساعد كثيرا على فهم معاني القرآن الكريم

شكرا جزيلا

أهلا بالأخت سناء
والشكر لك على مرورك من هنا
فائق التقدير،،،

ريوف
21-10-2019, 03:02 AM
موضوع شيق وممتع ومعلومات قيمه ..شكرا لك الناقد المبدع عبدالله الروقي

الناقد/عبدالله الروقي
22-10-2019, 10:57 PM
موضوع شيق وممتع ومعلومات قيمه ..شكرا لك الناقد المبدع عبدالله الروقي

مرحبا بك شاعرتنا الرائعة ريوف , بارك الله فيك !